كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالوا سَلَامًا قال سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)}.
قوله: {إِذْ دَخَلُواْ}: في العاملِ في {إذ} أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه حديث أي: هل أتاك حديثهم الواقعُ في وقت دخولِهم عليه. الثاني: أنه منصوبٌ بما في {ضَيْف} من معنى الفعل؛ لأنه في الأصلِ مصدرٌ، ولذلك استوى فيه الواحدُ المذكرُ وغيره، كأنه قيل: الذي أضافهم في وقتِ دخولِهم عليه. الثالث: أنَّه منصوبٌ ب {المُكْرَمين} إنْ أريد بإِكرامهِم أنَّ إبراهيمَ أكرمَهم بخدمتِه لهم. الرابع: أنه منصوبٌ بإضمارِ اذْكُر، ولا يجوزُ نصبُه ب {أتاك} لاختلافِ الزمانَيْن.
وقرأ العامَّةُ {المُكْرَمين} بتخفيفِ الراءِ مِنْ أكرم. وعكرمة بالتشديد.
قوله: {سَلاَمًا قال سَلاَمٌ}: قد تقدَّم تحريرُ هذا في هود. وقال ابن عطية: ويتجهُ أن يعملَ في {سَلامًا} قالوا على أَنْ يُجعل سلامًا في معنى قولا، ويكون المعنى حينئذٍ: أنهم قالوا تحية وقولا معناه سلامًا. وهذا قول مجاهد. قلت: ولو جُعِل التقدير أنَّهم قالوا هذا اللفظَ بعينِه لكان أَوْلى، وتفسيرُ هذا اللفظِ هو التحيةُ المعهودةُ. وتقدَّم أيضًا خلافُ القراء في {سلامًا} بالنسبة إلى فتحِ سِينه وكسرِها وإلى سكونِ لامِه وفتحِها.
والعامَّةُ على نصب {سلامًا} الأول ورفع الثاني، وقرئا مرفوعَيْن، وقُرىء {سَلامًا} قال: {سِلْمًا} بكسرِ سينِ الثاني ونصبِه، ولا يَخْفَى توجيهُ ذلك كلِّه مِمَّا تقدَّمَ في هود.
قوله: {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ فقدَّروه: أنتم قومٌ، ولم يَسْتحسِنْه بعضُهم؛ لأنَّ فيه عَدَمَ أُنْسٍ فمثلُه لا يقعُ من إبراهيم عليه السلام، فالأَوْلَى أَنْ يُقَدَّر: هؤلاء قومٌ أو هم قومٌ، وتكون مقالتُه هذه مع أهلِ بيتِه وخاصَّتِه لا لنفسِ الضيفِ؛ لأنَّ ذلك يُوْحِشُهم.
{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)}.
وقوله: {فَجَاءَ}: عطفٌ على {فراغَ}، وتَسَبُّبُه عنه واضحٌ. والهمزةُ في {ألا تأكلون} للإِنكار عليهم في عَدَمِ أكلِهم، أو للعَرْضِ أو للتحضيضِ.
{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقالتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)}.
قوله: {فِي صَرَّةٍ}: يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا من الفاعل أي: كائنةً في صَرَّة. والصَّرَّة قيل: الصيحة. قال امرؤ القيس:
فَأَلْحَقَنا بالهادياتِ ودونَه ** جَواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيَّلِ

قال الزمخشري: مِنْ صَرَّ الجُنْدُبُ والبابُ والقلمُ. ومحلُّه النصبُ على الحالِ أي: فجاءَتْ صارَّةً، ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقًا ب (أَقْبَلَتْ) أي: أقبلَتْ في جماعةِ نسوةٍ كُنَّ معها. والصَّرَّةُ: الجماعةُ من النساء.
قوله: {فَصَكَّتْ} أي: لَطَمَتْ: واخْتُلف فيه، فقيل: هو الضَّرْبُ باليد مبسوطةً. وقيل: بل ضَرْبُ الوجهِ بأطرافِ الأصابعِ فِعْلَ المتعجِّبِ، وهي عادةُ النساءِ.
قوله: {عجوزٌ}: خبرٌ مبتدأ مضمرٍ أي: أنا عجوزٌ عقيمٌ فكيف أَلِدُ؟ تفسِّرها الآيةُ الأخرى.
{قالوا كَذَلِكِ قال رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)}.
قوله: {كَذَلِكَ}: منصوبٌ على المصدرِ ب (قال) الثانية أي: مثلَ ذلك القول الذي أخبرناك به قال ربُّك أي: إنه من جهةِ اللَّهِ فلا تَتَعجَّبي منه.
{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)}.
قوله: {مُّسَوَّمَةً}: فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على النعتِ لحجارة. والثاني: أنَّه حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجارِّ قبله. الثالث: أنه حالٌ مِنْ {حجارة} وحَسَّن ذلك كونُ النكرةِ وُصِفَتْ بالجارِّ بعدها.
قوله: {عِندَ رَبِّكَ} ظرفٌ ل {مُسَوَّمةً} أي: مُعْلَمَةً عنده.
{وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)}.
قوله: {فِيهَآ آيَةً}: يجوز أن يعود الضمير على القرية أي: تَرَكْنا في القرية علامةً كالحجارةِ أو الماء المُنْتِنِ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الإِهلاكةِ المفهومةِ من السِّياق.
{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)}.
قوله: {وَفِي موسى}: فيه أوجهٌ، أحدُها: وهو الظاهر أنه عطفٌ على قوله: فيها بإعادةِ الجارِّ؛ لأن المعطوفَ عليه ضميرٌ مجرورٌ فيتعلَّقُ ب {تَرَكْنا} من حيث المعنى، ويكونُ التقديرُ: وتَرَكْنا في قصةِ موسى آيةً. هذا معنىً واضحٌ. والثاني: أنه معطوفٌ على قوله: {وَفِي الأرض آيَاتٌ} [الذاريات: 20] أي: وفي الأرضِ وفي موسى آياتٌ للموقِنين، قاله الزمخشري وابنُ عطية. قال الشيخُ: وهذا بعيدٌ جدًا يُنَزَّه القرآن عن مثلِه.
قلت: ووجهُ استبعادِه له: بُعْدُ ما بينهما، وقد فعل أهلُ العلمِ هذا في أكثرَ من ذلك. الثالث: أنه متعلقٌ ب {جَعَلْنا} مقدرةً لدلالةِ {وتَرَكْنا}. قال الزمخشري: أو على قوله يعني أو يُعْطَفُ على قول: {وترَكْنا فيها آيةً} على معنى: وجَعَلْنا في موسى آيةً كقوله:
فَعَلَفْتُها تِبْنًا وماءً باردًا

قال الشيخ: ولا حاجةَ إلى إضمار {وجَعَلْنا} لأنه قد أمكن أَنْ يكونَ العامل في المجرور {وتَرَكْنا}.
قلت: والزمخشريُّ إنما أراد الوجهَ الأولَ بدليلِ قوله: وفي موسى معطوفٌ على {وفي الأرض} أو على قوله: {وتركْنا فيها}.
وإنما قال: على معنى من جهةِ تفسيرِ المعنى لا الإِعراب، وإنما أظهر الفعلَ تنبيهًا على مغايرة الفعلَيْن. يعني: أن هذا التركَ غيرُ ذاك التركِ، ولذلك أبرزَه بمادةِ الجَعْلِ دون مادة التركِ لتظهرَ المخالفةُ.
قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ} يجوز في هذا الظرفِ ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدُها: أَنْ يكونَ منصوبًا بآية على الوجهِ الأول أي: تركنا في قصة موسى علامةً في وقتِ إرْسالِنا إياه. والثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنَّه نعتٌ لآية أي: آيةً كائنةً في وقتِ إرْسالِنا. الثالث: أنه منصوبٌ ب {تَرَكْنا}.
قوله: {بِسُلْطَانٍ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفس الإِرسال، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ: إمَّا مِنْ موسى، وإمَّا مِنْ ضميرِه أي: ملتبسًا بسلطان، وهي الحُجَّةُ.
{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقال سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)}.
قوله: {بِرُكْنِهِ}: حالٌ من فاعل {تَوَلَّى}.
قوله: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} {أو} هنا على بابِها من الإِبهام على السامعِ أو للشكِّ، نَزَّل نفسَه مع أنَّه يَعْرِفُه نبيًا حقًا منزلةَ الشَّاكِّ في أمرِه تَمْويهًا على قومِه. وقال أبو عبيدة: أو بمعنى الواو. قال: لأنه قد قالهما، قال تعالى: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109]. وقال في موضع آخرَ: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]. وتجيْءُ {أو} بمعنى الواو كقوله:
أثَعْلَبَةَ الفوارِسَ أو رِياحا ** عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا

وردَّ الناسُ عليه هذا وقالوا: لا ضرورةَ تَدْعُو إلى ذلك، وأمَّا الآيتان فلا تَدُلاَّن على أنَّه قالهما معًا، وإنما تفيدان أنه قالهما أعَمَّ مِنْ أَنْ يكونا معًا، وهذه في وقت وهذه في آخرَ.
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)}.
قوله: {وَجُنُودَهُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفًا على مفعول {أَخَذْناه} وهو الظاهرُ، وأَنْ يكونَ مفعولًا معه.
قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} جملةٌ حاليةٌ، فإن كانت حالًا من مفعول {نَبَذْناهم} فالواوُ لازمةٌ إذ ليسَ فيها ذِكْرٌ يعودُ على صاحب الحال، وإن كانت حالًا من مفعول {أَخَذْناه} فالواوُ ليسَتْ واجبةٍ؛ إذ في الجملة ذِكْرٌ يعودُ عليه. وقد يُقال: إنَّ الضمير في {نَبَذْناهم} يعود على فرعون وعلى جنودِه، فصار في الحال ذِكْرٌ يعودُ على بعض ما شَمَلَه الضميرُ الأول. وفيه نظرٌ؛ إذ يصيرُ نظيرَ قولك: جاء السلطانُ وجنوده فأكرمتُهم راكبًا فرسَه فتجعل راكبًا حالًا من بعضِ ما اشتمل عليه ضميرُ أكرمتُهم.
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)}.
قوله: {وَفِي عَادٍ وَفِي ثَمُودَ وَفِي موسى}: تقدَّم مثلُه.
{مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)}.
قوله: {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم}: هذه الجملةُ في موضع المفعول الثاني ل {تَذَرُ} كأنه قيل: ما تَتْرك من شيءٍ إلاَّ مجعولًا نحو: ما تركتُ زيدًا إلاَّ عالمًا. وأعرَبها الشيخُ حالًا وليس بظاهرٍ.
{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)}.
قوله: {الصاعقة}: هذه قراءة العامَّةِ. وقرأ الكسائي {الصَّعْقَة}، والحسن {الصاِعقة}. وتقدَّم ذِكْرُ هذا كلِّه في البقرة.
قوله: {وَهُمْ يَنظُرُونَ} جملةٌ حاليةٌ من المفعول. و{ينظرون} قيل: من النظر. وقيل: من الانتظار أي: ينتظرون ما وُعِدوه من العذاب.
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)}.
قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ}: قرأ الأخَوان وأبو عمرو بجرِّ الميم، والباقون بنصبها. وأبو السَّمَّال وابن مقسم وأبو عمرو في روايةِ الأصمعيِّ {وقومُ} بالرفع. فأمَّا الخفضُ ففيه أربعةُ أوجهٍ:
أحدُها: أنه معطوفٌ على {وفي الأرض}.
الثاني: أنه معطوفٌ على {وفي موسى}.
الثالث: أنه معطوفٌ على {وفي عاد}.
الرابع: أنه معطوفٌ على {وفي ثمودَ}، وهذا هو الظاهرُ لقُرْبِه وبُعْدِ غيرِه. ولم يذكرْ الزمخشريُّ غيرَه فإنه قال: وقُرِىء بالجرِّ على معنى وفي قوم نوح.
ويُقَوِّيه قراءة عبد الله {وفي قوم نوح}. ولم يَذْكُرْ أبو البقاء غيرَ الوجهِ الأخيرِ لظهورِه.
وأمّا النصبُ ففيه ستةُ أوجهٍ، أحدها: أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ أي: وأهلَكْنا قومَ نوح؛ لأنَّ ما قبلَه يَدُلُّ عليه. الثاني: أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدرًا، ولم يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَهما. الثالث: أنَّه منصوبٌ عطفًا على مفعول {فأَخَذْناه}.
الرابع: أنه معطوفٌ على مفعول {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} وناسَبَ ذلك أنَّ قومَ نوح مُغْرقون من قبلُ. لكنْ يُشْكِلُ أنَّهم لم يَغْرَقوا في اليمِّ. وأصلُ العطفِ أَنْ يقتضيَ التشريكَ في المتعلَّقات.
الخامس: أنَّه معطوفٌ على مفعولِ {فَأَخَذَتْهم الصاعقةُ}. وفيه إشكالٌ؛ لأنهم لم تأخُذْهم الصاعقةُ، وإنما أُهْلكوا بالغَرَقِ. إلاَّ أَنْ يُرادَ بالصاعقةِ الداهيةُ والنازلةُ العظيمة من أيِّ نوع كانت، فيَقْرُبُ ذلك. السادس: أنه معطوفٌ على محلِّ {وفي موسى}، نقله أبو البقاء وهو ضعيفٌ.
وأما الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ مقدَّرٌ أي: أهلَكْناهم. وقال أبو البقاء: والخبرُ ما بعدَه يعني مِنْ قوله: {إنهم كانوا قومًا فاسقين}. ولا يجوز أَنْ يكونَ مرادُه قوله: {من قبلُ}؛ إذ الظرفُ ناقصٌ فلا يُخبَرُ به.
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)}.
قوله: {والسماء بَنَيْنَاهَا}: العامة على النصب على الاشتغالِ، وكذلك قوله: {والأرضَ فَرَشْناها} والتقديرُ: وبَنَيْنا السماءَ بَنَيْناها. وقال أبو البقاء: أي: ورفَعْنا السماءَ فقدَّر الناصبَ مِنْ غير لفظ الظاهر، وهذا إنما يُصار إليه عند تعذُّرِ التقديرِ الموافقِ لفظًا نحو: زيدًا مررت به، وزيدًا ضربْتُ غلامَه. وأمَّا في نحو زيدًا ضربتُه فلا يُقَدَّر: إلاَّ ضربْتُ زيدًا. وقرأ أبو السَّمَّال وابن مقسم برفعِهما على الابتداء، والخبرُ ما بعدهما. والنصبُ أرجحُ لعطفِ جملة الاشتغال على جملةٍ فعلية قبلَها.
قوله: {بِأَيْدٍ} يجوز أَنْ يتعلقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ. وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّها حالٌ من فاعل {بَنَيْناها} أي: ملتبسين بقوةٍ.
والثاني: أنها حالٌ مِنْ مفعولِه أي: ملتبسةً بقوةٍ. ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للسببِ أي: بسببِ قدرتِنا. ويجوزُ أَنْ تكون الباءُ مُعَدِّيَةً مجازًا، على أن تجعلَ الأَيْدَ كالآلةِ المبنيِّ بها كقولك: بَنَيْتُ بيتَك بالآجُرِّ.
قوله: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ حالًا مِنْ فاعل {بَنَيْناها}، ويجوزُ أَنْ تكونَ حالًا من مفعوله، ومفعول {مُوْسِعون} محذوفٌ أي: موسِعون بناءَها. ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّر له مفعولٌ؛ لأنَّ معناه لَقادِرون، مِنْ قولك: ما في وُسْعي كذا أي: ما في طاقتي وقوتي.
{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)}.
قوله: {فَنِعْمَ الماهدون}: المخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ لفهمِ المعنى أي: نحن كقوله: {نِعْمَ العبد} [ص: 44].
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)}.
قوله: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ}: يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب {خَلَقْنا} أي: خَلَقْنا مِنْ كلِّ شيء زوجَيْن، وأَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ {زوجَيْن}؛ لأنه في الأصل صفةٌ له؛ إذ التقديرُ: خَلَقْنا زوجَيْن كائنين من كلِّ شيءٍ، والأولُ أقوى في المعنى.
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}.
قوله: {كَذَلِكَ}: فيه وجهان، أظهرُهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ مثلُ ذلك. والإِشارةُ بـ(ذلك) قال الزمخشريُّ: إلى تكذيبهِم الرسولَ وتسميتِه ساحرًا ومجنونًا ثم فَسَّر ما أَجْمل بقوله: ما أَتى.
والثاني: أن الكاف في محلِّ نصبٍ نعتًا لمصدر محذوف، قاله مكي، ولم يُبَيِّنْ تقديرَه ولا يَصِحُّ أَنْ ينتصِبَ بما بعده لأجل {ما} النافية. وأمَّا المعنى فلا يمتنعُ، ولذلك قال الزمخشري: ولا يَصِحُّ أن تكون الكافُ منصوبةً ب {أتى} لأنَّ {ما} النافيةَ لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولو قيل: لم يأتِ لكان صحيحًا.
يعني لو أتى في موضع (ما) ب (لم) لجازَ أن تنتصِبَ الكافُ ب {أتى} لأن المعنى يَسُوغ عليه. والتقدير: كَذَّبَتْ قريشٌ تكذيبًا مثلَ تكذيب الأمم السابقة رسلَهم. ويَدُلُّ عليه قوله: {مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ} الآية.
قوله: {إِلاَّ قالواْ} الجملةُ القوليةُ في محلِّ نصب على الحال من {الذين مِن قَبْلِهِمْ}، و{من رسولٍ} فاعلُ {أتى} كأنه قيل: ما أتى الأوَّلين رسولٌ إلاَّ في حالِ قولهم: هو ساحرٌ. والضميرُ في به يعودُ على القول المدلولِ عليه ب قالوا أي: أتواصَى الأوَّلُوْن والآخرِون بهذا القول المتضمِّنِ لساحرٍ أو مجنونٍ، والاستفهامُ للتعجب.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}.
قوله: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}: متعلقٌ ب {خَلَقْتُ}. واخْتُلف في الجن والإِنس: هل المرادُ بهم العمومُ، والمعنى: إلاَّ لأمْرِهم بالعبادة، ولِيقِرُّوا بها؟ وهذا منقول عن عليّ، أو يكون المعنى: ليطيعونِ وينقادوا لقضائي، فالمؤمنُ يفعل ذلك طَوْعًا والكافرُ كَرْهًا، أو يكون المعنى: إلاَّ مُعَدِّين للعبادة. ثم منهم منْ يتأتَّى منه ذلك، ومنهم مَنْ لا كقولك: هذا القلمُ بَرَيْتُه للكتابة، ثم قد تكتب به وقد لا تكتب، أو المرادُ بهم الخصوص. والمعنى: وما خلقتُ الجنَّ والإِنس المؤمنين. وقيل: الطائعين. والأولُ أحسن.
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)}.
قوله: {أَن يُطْعِمُونِ}: قيل: فيه حَذْفُ مضافٍ، أي: يُطعموا خَلْقي. وقيل: المعنى أَنْ ينفعونِ، فعبَّر ببعضِ وجوه الانتفاعات؛ لأنَّ عادةَ السادة أَنْ ينتفعوا بعبيدِهم، واللَّهُ سبحانه وتعالى مُسْتَغْنٍ عن ذلك.
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}.
قوله: {المتين}: العامَّةُ على رفعِه. وفيه أوجهٌ: إمَّا النعتُ للرزَّاق، وإمَّا النعتُ ل {ذو}، وإمَّا النعتُ لاسم {إنَّ} على الموضع، وهو مذهبُ الجَرْميِّ والفراءِ وغيرِهما، وإمَّا خبرٌ بعد خبرٍ، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وعلى كل تقدير فهو تأكيدٌ لأن {ذو القوة} يُفيد فائدتَه. وقرأ ابن محيصن {الرازق} كما قرأ {وَفِي السماء رازِقُكُمْ} كما تقدَّم. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش {المتينِ} بالجر فقيل: صفة للقوة، وإنما ذَكَّر وصفَها لكونِ تأنيثها غيرَ حقيقي. وقيل: لأنها في معنى الأَيْد. وقال ابن جني: هو خفضٌ على الجوارِ كقولهم: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ يعني أنه صفةٌ للمرفوع، وإنما جُرَّ لَمَّا جاور مجرورًا. وهذا مرجوحٌ لإِمكانِ غيرِه، والجِوارُ لا يُصار إليه إلاَّ عند الحاجة.
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)}.
قوله: {ذَنُوبًا}: الذَّنوبُ في الأصل: الدَّلْوُ المَلأَى ماءً. وفي الحديث: «فأتى بذَنوبٍ من ماءٍ» فإنْ لم تكن مَلأَى فهو دَلْوٌ، ثم عُبِّر به عن النصيب. قال علقمة:
وفي كلِّ حَيٍّ قد خبَطْتُ بنِعْمَةٍ ** فحُقَّ لشاسٍ مِنْ نَداكَ ذَنوبُ

ويُجْمع في القلةِ على: أَذْنِبة، وفي الكثرةِ على: ذَنائب. وقال المَلِكُ لَمَّا أُنْشد هذا البيتَ: نعم، وأَذْنِبَة. وقال الزمخشري: الذَّنوبُ: الدَّلْوُ العظيمةُ. وهذا تمثيلٌ، أصلُه في السُّقاةِ يَقْتسمون الماءَ، فيكونُ لهذا ذَنُوب، ولهذا ذَنوب. قال الراجز:
لنا ذَنوبٌ ولكم ذَنُوبُ ** فإنْ أَبَيْتُمْ فلنا القَليبُ

وقال الراغبُ: الذَّنوبُ: الدَّلْوُ الذي له ذَنَبٌ انتهى. فراعى الاشتقاقَ، والذَّنُوب أيضًا: الفرسُ الطويلُ الذَّنَبِ وهو صفةٌ على فَعُوْل، والذَّنُوب: لحمُ أسفلِ المَتْن. ويُقال: يومٌ ذَنوبٌ أي: طويلُ الشَّرِّ استعارةً من ذلك.
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}.
قوله: {الذي يُوعَدُونَ}: حُذِفَ العائدُ لاستكمالِ شروطِه أي: يُوْعَدُونه. اهـ.